هذه جائزة ربانية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي جائزة خاصة له وحده، لم تُقَدَّم لأحد قبله، ولن تُقَدَّم لأحد بعده! جائزة دخول الجنَّة وهو ما زال من أهل الدنيا!
دخول رسول الله الجنة
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ثُمَّ أُدْخِلْتُ الجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا حَبَايِلُ اللُّؤْلُؤِ وَإِذَا تُرَابُهَا المِسْكُ” .
وفي رواية: “ثُمَّ أُدْخِلْتُ الجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤَ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ”.
أين توجد هذه الجنَّة التي دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
اختلف العلماء في تحديد مكان الجنَّة! والحقُّ أن ما يهمنا على وجه اليقين هو أن نعمل بعمل أهل الجنَّة حتى ندخلها أينما كانت، ومع ذلك فإذا كانت هناك معلومات متاحة لنا من القرآن أو السُّنَّة فينبغي لنا أن نعرفها، ونؤمن بها؛ لأن الله تعالى أراد أن يُطْلِعنا عليها.
في هذا النصِّ الذي بين أيدينا ما يثبت أن الجنَّة في السماء؛ بل إنها أعلى السماء السابعة؛ لأنه لم يثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد خرج من السماء السابعة حتى يدخل الجنَّة، والرواية تذكر أنه قبل أن يدخل الجنَّة كان عند سدرة المنتهى، والسدرة في السماء السابعة كما نعلم؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “حَتَّى انْتَهَى بِي إِلَى سِدْرَةِ المُنْتَهَى، وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لاَ أَدْرِي مَا هِيَ، ثُمَّ أُدْخِلْتُ الجَنَّةَ”. فمن الواضح أن الجنَّة قريبة من سدرة المنتهى، وقد يبدو لنا أنها “في” السماء السابعة، بمعنى أنها إحدى مكوِّناتها؛ ولكن يتعارض مع هذا قولُه سبحانه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]
فالجنَّة بهذا الوصف عرضها السموات جميعًا بما فيها السابعة؛ فهي بذلك أكبر منها لا شك.
والذي يبدو لي أن الجنَّة كيان ضخم هائل خارج عن السماء السابعة إلى أجزاء أخرى من الكون الفسيح، الذي لا يعلم حدوده إلا الله، إلا أن بابًا -على الأقل- من أبواب الدخول إليها موجود في السماء السابعة، ومنه دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجنَّة التي دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، هي جنَّة المأوى؛ وذلك لما جاء في سورة النجم وصفًا لهذا الجانب من رحلة المعراج. قال تعالى: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم: 14 – 15]
فجنَّة المأوى بنصِّ الآية عند سدرة المنتهى، وسدرة المنتهى في السماء السابعة، فصارت جنَّة المأوى -أو جانبًا منها- في هذه السماء.
ومصطلح “الجنَّة” مصطلح جامع، وهو المكان الذي سيُنَعَّم فيه المؤمنون بعد بعثهم يوم القيامة، وهو يشمل في داخله على الأقل أربع جنان، وهي التي جاءت في سورة الرحمن؛ في قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]
ثم في قوله: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن: 62]
وروى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلاَّ رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ” [5]. ويُحتمل أن كل هذه الجنان يُطْلَق عليها مجتمعة “جنَّة المأوى”، ويُحتمل أن جنَّة المأوى هي إحدى هذه الجنان الأربعة، ويُحتمل أنها غيرها جميعًا.
وصف الجنة
أما مشاعر الرسول صلى الله عليه وسلم عندما دخل الجنَّة فلا ندري كيف كانت! فهو الآن يدخل الجنَّة التي كثيرًا ما وصفها للمسلمين دون أن يراها؟! إنه الآن يسير في طرقها.. فوق ترابها.. على ضفاف أنهارها.. ويحكي لنا!
أول ما لفت نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم -بل فاجأه، لقوله: “فَإِذَا..”. للدلالة على المباغتة- وجود ما أطلق عليه: “حَبَايِلَ اللُّؤْلُؤِ” في رواية، أو: “جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤَ” في رواية أخرى، وليس بالضرورة أن تكون إحدى الروايتين صحيحة والأخرى ضعيفة؛ فالأولى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حكى لصحابته الأمر مرارًا، فحكاها مرَّة باللفظ الأول، وأخرى باللفظ الثاني، خاصة وأن الروايتين في البخاري، وأن المعنيين صحيحان.
وحبايل اللؤلؤ هي عقود اللؤلؤ وقلائده، وأنا لا أتوقع أنه صلى الله عليه وسلم يقصد العقود التي تُلْبَس؛ إنما يقصد -والله أعلم- عقودًا مُعَلَّقة في نواحي الجنَّة المختلفة؛ وذلك لتزيين الجنَّة ذاتها، وقد يكون هذا نوع من زينة الاحتفال بدخول خير البريَّة صلى الله عليه وسلم؛ فنحن نرى في دنيانا كيف يستقبل الملوك ضيوفهم المكرمين، فكيف باستقبال ملك الملوك سبحانه لأكرم ضيوفه قاطبة؟! والذي يُؤَيِّد هذا المعنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصف مشهدًا عامًّا للجنَّة اكتفى فيه بذكر أمرين؛ وهما حبايل اللؤلؤ والتراب، ولا يُتَوقَع في هذا المقام أن يصف شيئًا يُلْبَس.
أما جنابذ اللؤلؤ فمفردها جُنْبُذَةٌ، وَهُوَ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْبِنَاءِ، وهي لفظة فَارِسِيَّة مُعَرَّبة، وهي القباب (جمع قُبَّة)، والقباب من سمات الجنَّة، وذُكِرت في أكثر من حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ منها ما هو حول نهر الكوثر، وسيرد الكلام عنه بعد قليل إن شاء الله.
أما تراب الجنَّة فهو المسك كما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يُعطي الانطباع عن الرائحة العامة الرائعة التي يشمُّها أهل الجنَّة بصفة دائمة؛ فهي ليست روائح مخصوصة بأماكن معينة؛ إنما هي التراب الموجود في كل مكان!
كان هذا هو المشهد العام الذي لاحظه رسول الله صلى الله عليه وسلم للوهلة الأولى عند دخوله للجنَّة، ثم قام جبريل عليه السلام بترتيب جولة جميلة في بعض أنحاء الجنَّة، شاهد فيها النبي الكريم عدَّة مشاهد أخرى! كان من هذه المشاهد المهمَّة نهر الكوثر!
أ.د. راغب السرجاني
_____________
[1] قال ابن حجر: “حبايل اللؤلؤ كذا وقع لجميع رواة البخاري في هذا الموضع، بالحاء المهملة، ثم الموحدة، وبعد الألف تحتانية، ثم لام، وذكر كثير من الأئمة أنه تصحيف؛ وإنما هو جنابذ بالجيم والنون، وبعد الألف موحدة، ثم ذال معجمة، كما وقع عند المصنف في أحاديث الأنبياء من رواية ابن المبارك وغيره عن يونس، وكذا عند غيره من الأئمة، ووجدتُ في نسخة معتمدة من رواية أبي ذر في هذا الموضع جنابذ على الصواب، وأظنه من إصلاح بعض الرواة، وقال ابن حزم في أجوبته على مواضع من البخاري: فتشت على هاتين اللفظتين فلم أجدهما ولا واحدة منهما، ولا وقفت على معناهما. انتهى، وذكر غيره أن الجنابذ شبه القباب؛ واحدها جنبذة بالضم؛ وهو ما ارتفع من البناء، فهو فارسي معرب، وأصله بلسانهم كنبذة بوزنه؛ لكن الموحدة مفتوحة، والكاف ليست خالصة، ويؤيده ما رواه المصنف في التفسير من طريق شيبان عن قتادة عن أنس، قال: لما عرج بالنبي قال: أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ. وقال صاحب المطالع في الحبائل: قيل: هي القلائد والعقود، أو هي من حبال الرمل؛ أي فيها لؤلؤ مثل حبال الرمل، جمع حبل، وهو ما استطال من الرمل. وتعقب بأن الحبائل لا تكون إلا جمع حبالة أو حبيلة بوزن عظيمة، وقال بعض من اعتنى بالبخاري: الحبائل جمع حبالة، وحبالة جمع حبل على غير قياس، والمراد أن فيها عقودًا وقلائد من اللؤلؤ”. ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 1/463.
[2] البخاري: كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء، (342)، عن أبي ذر رضي الله عنه.
[3] قال النووي: الجنابذ فبالجيم المفتوحة، وبعدها نون مفتوحة، ثم ألف، ثم باء موحدة، ثم ذال معجمة؛ وهي: القباب، واحدتها جنبذة. النووي: المنهاج 2/222.
[4] البخاري: كتاب الأنبياء، باب ذكر إدريس عليه السلام، (3164)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلوات، (163)، عن أبي ذر رضي الله عنه، واللفظ له.
[5] البخاري: كتاب التفسير، سورة الرحمن، (4597)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم عز وجل، (180)، واللفظ له.