من النبي الذي دفن بعد الرسول

 

 

لما تولّى الصحابي الجليل أبو موسى -رضي الله عنه- خلافة مدينة السّوس بعدما فتحها، وجد في قلعتها غرفةً عليها سِتر، فسأل عنها، فأخبروه أنّ فيها جثّة النبيّ دانيال -عليه السلام-، وبجانبه مبلغٌ من المال، يأخذ الناس منه ويعيدونه في وقتٍ محدّد، فقدِم عليه أبو موسى وأمسك به وقبّله، وأرسل بخبره إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فأمره عمر أن يكفّنه ويحنّطه ويصلّي عليه، وأن يدفنه كما يُدفن الأنبياء، وأن يأخذ المال ويجعله في بيت مال المسلمين، ففعل أبو موسى -رضي الله عنه- ذلك،[١] وقد كانت جُثّته في بابل، ونُقلت إلى مدينة السّوس بعد أن طلبها أهلها من بابل؛ ليستسقوا بالنّبي دانيال بعد أن أصابهم القحط والجوع، فأعطوهم إياه،[٢] وقد حفر أبو موسى -رضي الله عنه- ثلاث عشرة حفرةً في النّهار، ودفنه في إحداها لمّا حلّ الليل، وجعلها كلّها متشابهة حتى لا يميّز الناس في أيّها دُفن فينبشوا قبره[٣]

 

خبر النبي دانيال
كان دانيال من الذين أسَرَهم بُختنَصّر*، وأخذه إلى بابل، ونجا من بين يديه حين فسّر له دانيال حلماً رآه في منامه، فأراد أن يكرمه فأطلق سراحه، حيث يُروى أن بُخت نصّر بعدما استولى على بيت المقدس وبقيت تحت إمرته سبع سنوات؛ رأى حلماً عظيماً ونسِيَه، فجمع الكهنة حتى يذكروا له ما رأى، فعجزوا عن ذلك، فأمهلهم ثلاثة أيّامٍ وهدّدهم بالقتل إن لم يعرفوا، فسمع بالخبر دانيال وهو في السجن، فأرسل إليه أنّه يعلم برؤياه وتفسيرها، فطلب بُختنَصّر من السجّان أن يحضره إليه، فلما جاء النبيّ دانيال دخل على بُختنَصّر ولم يسجد له، فسأله عمّا منعه من السجود، فأخبره أنّ الله -تعالى- آتاه علماً وأمره ألّا يسجد لغيره، فأعجب به وطلب منه أن يخبره عن رؤياه، فرواها وفسّرها له، ولما مات بُختنَصّر عاد النبيّ دانيال إلى بيت المقدس، ونقل العماد الأصبهانيّ -رحمه الله- في كتابه قول إنّ دانيال تُوفّي بمدينة السّوس من أرض خوزستان، ونَقل أيضاً أنّه حكيمٌ وليس بنبيّ، وأنّه من ذريّة داود -عليه السلام-.[٤][٥]

 

وقد وجد أبو موسى -رضي الله عنه- مع دانيال -عليه السلام- في قبره خاتماً نُقش عليه أسدان يَلْمسان بلسانَيْهما رجلاً موضوعاً بينهما دون أن يأكلاه، فسأل أبو موسى العلماء في تلك القرية عن سبب ذلك، فقالوا إنّ الملك الذي كان دانيال يعيش في زمانه، أخبره السحرة أنّ هناك فتىً سيولد، وسيكون خراب ملكه على يديه، فتوعّد بقتل جميع الغلمان، أمّا دانيال فقد أخذوه ووضعوه في قفصٍ عند أسدٍ وزوجته، فلم يضرّاه أو يأكلاه، حتى جاءت أمّه إليه وأخرجته، وبذلك نجّاه الله -تعالى-، ثمّ قام بعد ذلك بنقش هذين الأَسَدين على خاتمه ليبقى متذكّراً نعمة الله -تعالى- عليه.[٦]

 

يجدر بالذكر أنّه لم يأتِ في النصوص الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ما ينصّ على الأمر بإخفاء قبرٍ من قبور الأنبياء، ولم يكن هناك مكانٌ واضحٌ لقبر أي نبيّ في عهد رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وصحابته الكرام، وذلك بسبب طول الفترة الزمنية بين عهد الأنبياء وعهد رسول الله، مما أدّى إلى اختفاء أثر هذه القبور، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “وليس في الأرض قبرٌ اتّفق على أنّه قبر نبيٍّ غير قبره -يعني قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم-“، وقد كان قبر النبيّ دانيال في تَسْتُر ظاهراً للناس، وكان الناس يأتون إليه فيستسقون ويتوسّلون به، فكتب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى والي تَسْتُر أبي موسى، وطلب منه أن يحفر بالنّهار ثلاثة عشر قبراً، ويختار واحداً منها ليدفنه فيه في الليل، وذلك سدّاً لذريعة أن يقع الناس في الشرك.[٧]

 

وحذّر رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- النّاسَ من اتّخاذ قبره مكاناً يجتمعون عنده للتوسّل به، أو يقومون بالبناء فوقه، كما حذّر من فعل ذلك على جميع القبور، فقال -عليه الصلاة والسلام-: (لا تجعلوا بيوتَكُم قبورًا، ولا تجعلوا قَبري عيدًا، وصلُّوا عليَّ فإنَّ صلاتَكُم تبلغُني حَيثُ كنتُمْ)،[٨] وعليه فإنّ قبور الأنبياء لم يتمّ إخفاؤها؛ وإنّما اندثرت مع مرور الزمان، إلا ما أمر عمر بن الخطاب بإخفائه، أي قبر النبي دانيال -على اعتبار القول بأنّه نبي-، أمّا قبر رسول الله فإنّ وجوده واضحٌ ومعلوم؛ لقرب عهده مقارنةً بغيره من الأنبياء، ولِما لقيَ من الاعتناء الشديد به منذ عهد الخلافة الراشدة وما بعدها إلى وقتنا الحاضر.[٧]

 

واختصّ الله -تعالى- الأنبياء بخصائص تميّزوا بها عن غيرهم، منها؛ أنّه -سبحانه وتعالى- يُخيّرهم عند موتهم ببقائهم على قيد الحياة أو لقائه -سبحانه-، وأنّهم يُدفنون في المكان الذي يتوفّاهم الله -تعالى- فيه، فقد سمع أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما مات نبيٌّ إلا دُفِنَ حيثُ يُقبَضُ)،[٩][١٠] ومن خصائصهم أنّ أجسامهم لا تبْلى بعد دفنهم، فلا تأكل الأرض أجسادهم مثل باقي البشر، ففي الحديث الشريف: (إنَّ اللهَ حرَّم على الأرضِ أن تأكلَ أجسادَ الأنبياءِ)،[١١][١٢][١٠] وقال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: (إنَّ من أفضلِ أيَّامِكُم يومَ الجمعةِ، فيهِ خُلِقَ آدمُ، وفيهِ قُبِضَ، وفيهِ النَّفخةُ، وفيهِ الصَّعقةُ، فأكْثِروا عليَّ منَ الصَّلاةِ فيهِ، فإنَّ صلاتَكُم معروضةٌ عليَّ، قالَ: قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، وَكَيفَ تُعرَضُ صلاتُنا عليكَ وقد أرِمتَ – يقولونَ بليتَ -، فقالَ: إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ حرَّمَ علَى الأرضِ أجسادَ الأنبياءِ)،[١٣] فتبقى أجسادهم كما هي لا يتغيّر عليها شيء.[١٤]

 

الهامش * بُختنَصّر:
ويُقال له نبوخذ نصّر، ولم يأتِ نصٌّ شرعيّ يبيّن زمنه، لكن ذكره بعض المفسّرين في كُتبهم على أنّه الرجل الذي خرّب بيت المقدس وهاجم بني إسرائيل فيها.[١٥]

المراجع
↑ علي الهندي (1981)، كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال (الطبعة الخامسة)، بيروت: مؤسسة الرسالة، صفحة 482، جزء 12. بتصرّف.
↑ أحمد البلاذري (1988)، فتوح البلدان، بيروت: دار ومكتبة الهلال، صفحة 367. بتصرّف.
↑ إسماعيل بن كثير (1986)، البداية والنهاية، دمشق: دار الفكر، صفحة 40، جزء 2. بتصرّف.
↑ محمد الأصفهاني (2002)، البستان الجامع لجميع تواريخ أهل الزمان (الطبعة الأولى)، بيروت: المكتبة العصرية، صفحة 75. بتصرّف.
↑ إسماعيل بن كثير (1997)، البداية والنهاية (الطبعة الأولى)، مصر: دار هجر، صفحة 543، جزء 3. بتصرّف.
^ أ ب “توضيح حول إخفاء قبور الأنبياء”، www.islamweb.net، 5-1-2003، اطّلع عليه بتاريخ 5-10-2020. بتصرّف.
↑ رواه الألباني، في صحيح أبي داود، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم: 2042، صحيح.
↑ رواه الألباني، في صحيح الجامع، عن أبي بكر الصديق، الصفحة أو الرقم: 5670، صحيح.
^ أ ب صالح المغامسي، الأيام النضرة في السيرة العطرة، صفحة 17، جزء 5. بتصرّف.
↑ رواه الألباني، في صحيح الجامع، عن أوس بن أبي أوس وقيل أوس بن أوس والد عمرو، الصفحة أو الرقم: 2212، صحيح.
↑ إسماعيل بن كثير (1976)، السيرة النبوية (من البداية والنهاية لابن كثير)، بيروت: دار المعرفة، صفحة 529، جزء 4. بتصرّف.
↑ رواه الألباني، في صحيح أبي داود، عن أوس بن أبي أوس وقيل أوس بن أوس والد عمرو، الصفحة أو الرقم: 1047، صحيح.
↑ عبد المحسن العباد، شرح سنن أبي داود، صفحة 19، جزء 182. بتصرّف.
↑ “هل بختنصر هو الذي هاجم بيت المقدس بعد يحيى عليه السلام؟”، www.islamqa.info، 17-11-2017، اطّلع عليه بتاريخ 18-10-2020. بتصرّف.




close